الأربعاء، 2 فبراير 2011

مشروع بناء الوعي

بسم الله الرحمن الرحيم

مشروع بناء الوعي (1_1) .

الوعي و التفاعل النقدي

قبل فترة زمنية وجيزة كنتُ أعتقد أن الثورة التقنية و المعرفية رفدت مجتمعنا مزيداً من الوعي بإسراجها المعارف و الأفكار و الخبرات بين يدي الأفراد ، أي أنها وضعت الفرد على مقربة من الحراكات العلمية و الفكرية بعد أن كان غائباً عنها بما يرفع منسوب الوعي لديه إلا أنني عدتُ عن ذلك و أصبحتُ أؤمن بضرورة تأسيس الوعي لدى الفرد ، فالإنفجار المعرفي و التقني سيزيد الفجوة بين ابن مجتمعاتنا الصغيرة و العلوم المتطورة في ظل جمود الأول المعرفي و الذهني و التسارع المذهل في الطرف الآخر ، و لا سبيل لتقليص الانحسار و بناء المجتمع إلا مد جسور الوعي الذي ينتجُ بلا شك تفاعلاً نقدياً خلاقاً كأحد أسس البناء المجتمعي.
الوعي باختصار هو الإدراك ، إدراك الأمر من كافة جوانبه و افتراض المخرجات و التبعات وفقاً لنوعية التعاطي معه و من ثم يأتي التفاعل الواعي أو ما سأسميه التفاعل النقدي و هو التفاعل الخلاق أي ذلك الذي يستفيد و يـُفيد.
و لكي تتضح الفكرة سنقسم الوعي إلى ثلاثة أقسام :
1_ الوعي بالأشياء :
و المقصود بالأشياء هنا الموجودات اللاواعية و الغير مدركة ذات الوجود الأحادي ، بمعنى أنها موجودة إلا أنها غير قادرة على التفاعل من تلقاء ذاتها بعكس الإنسان ذي الوجود المزدوج كما يقول هيجل ، فهو موجود كماهية و روح لذا هو القادر على التعاطي مع الأشياء من حوله و تسخيرها وفقاً للمفهوم القرآني في إعمار الحياة ، فهو قد يطوعها أو ينصاع إليها و يعود ذلك لمستوى الوعي لديه أو حتى وجود ذلك الوعي من عدمه، لذا كان حقيقاً بالإنسان فهم الأشياء فهماً كاملاً حقيقياً و استقراء نتائج التعاطي معها ، فمن المخجل أن يتحول الفرد أداة لأدواته أو أن يجعل منها قوة تحركه و تسيطر عليه و ترسم الكثير من تفاصيل حياته ، و لعلنا نسحبها على واقعنا الحياتي فمثلاً ارتفاع سعر مادة استهلاكية معينة هو بالتأكيد نتيجة وعي الطرف المستفيد و لكن تبقى هي في النهاية شيء يمكننا بالمقابل إخضاعه بالتقليل من استهلاكه أو التوجه لبدائل أخرى أو حتى مقاطعته ما يؤدي إلى نتيجة موجبة.
2_ الوعي بالمفاهيم و الأفكار:
لعل هذا المستوى أكثر تطوراً لأن الوعي بالأمور المعنوية غير المحسوسة يحتاج لمستوى ذهني أعلى و يعتمد هذا على نوعية المفهوم و الفكرة باختلافها من حيث إفادتها أو خيريتها من عدمها وهو ما أثبته الله عز وجل في قوله (إنا هديناه النجدين) أي طريق الخير و نقيضه ، فهي تعد أموراً كونية أزلية مبثوثة في الحياة منذ انفلقت ، كالمكابدة و المدافعة و المنطقية و الاستبداد و العدالة و النسبية و غيرها و الجانب البشري لا يتجاوز بلورتها و إطلاق المسمى.
وعي الإنسان بها هو إدراكها و من ثم إدراك امتداداتها الفكرية أي علاقتها التكاملية و التدافعية مع غيرها من المفاهيم ، و تأثيراتها المتعددة على المساحة البشرية ، و وفقاً لذاك يتم تطبيق المفهوم أو الإحجام عنه ، أو مدافعته أو الاسجابة له إن كان مفروضاً أو سائداً لحين إنجلائه ، إن التعاطي اللاواعي أي تطبيق المفاهيم و الأفكار و التفاعل معها على جهلٍ بها و بامتداداتها كفيل بخلق مشهد عبثي فوضوي يضر بالإنسان و يؤدي إلى انحساره و مجتمعه.
فمثلاً قد يفهم الفرد منا "العقلانية" على أنها مذهب فكري يجنح لتغليب العقل على النقل و هو ما يتقاطع سلباً مع المبادئ الدينية في حين يراه آخر أنه أحد السبل للتخلص من الخرافات الموروثة و إعادة قيم الإسلام لمكانها المميز في المجتمع ، فإعمال العقل سبيل لمزيد من الاطمئنان للمعتقد و الخشية كما ورد في القرآن الكريم.
أو كمن لا يعي مفهوماً ما فيرفضه لأنه يوحي إليه بشيء سالب بسبب صورة نسقية مغلوطة فيتوقف عليها دون تمحيص أو بحث و هنا غاب التفاعل النقدي لغياب الوعي أو انحساره.
3_ الوعي بالأحداث أو (الوعي المجتمعي):
و أقصد به فهم الإنسان لنظيره و وفقاً لذلك يعي مجتمعه و من ثم يأتي التعاطي، و مما يندرج في إطاره ما يسمى بـ (الوعي بالذات) ، فالوعي بالذات هو فرع من الوعي بالآخر و الوعي بالآخر هو فرع من الوعي بالذات كما يقول الدكتور عبدالكريم بكار ، فأنت تبصر الآخرين إنطلاقاً من خلفيتك و تكوينك الذهني و المعرفي.
يخرج الفرد للحياة كائناً بيولوجياً ما يلبث أن يتحول إلى كائنٍ اجتماعي مع اكتمال حواسه و إدراكه ، فهو كائن مزدوج (جسد و روح واعية) ينزع للتأثير و التأثر ، لذا في إطار المساحة الاجتماعية هو بحاجة لإدراك النزعات البشرية و الخلفيات العقلية و النفسية ، و التواشجات و التباينات الاجتماعية و عليها ينبني التفاعل الواعي ، إلا أن هذا الجانب يبدو مغيباً فالأحداث أو التفاعل المجتمعي هي ما يفتعله فرد أو فئة نتيجةً لمستوى معين من الوعي بالأشياء و المفاهيم و هو ما أشرت له في البدء حين أشرت إلى أن الوعي الاجتماعي هو نتيجة عقلية ذات خلفية معينة ، أي أن هذا الوعي ينطلق من فهمنا الخاص للأشياء و المفاهيم ، و كلما ازداد وعي الإنسان بهما ازداد وعيه بالآخرين من حوله، لذا كنت أقول دائماً أن الأحداث لا تعيد نفسها إنما العقلية السائدة تكرر نفسها في كل مرة.
على سبيل المثال في حقبة تاريخية مضت كان الحجاج الثقفي يفهم "البطش" على أنه تأديب و فرض لاستتباب الهدوء و ربما رأى السيف أداةً لذلك و ما يجنيه من مكاسب مادية تعزيزاً لسيادة العدالة لذا رأى في كل من خالفه مروقاً و جنوحاً حتى كان العالم الجليل سعيد بن جبير أحد ضحاياه.
و هو ما ينسحب على الفرد في عالم اليوم فالمدير مثلاً قد يرى في بقائه استمراراً للعمل المنتج و المثالي و يرى في ظهور الأسماء الجديدة القادمة إرباكاً لذا يستمرئ التهميش و السلطوية.
نحن لا نستطيع التخلص من أفكارنا التي ترسم وعينا بالآخرين إلا أن زيادة الوعي بالشيء و المفهوم سيؤدي لمزيدٍ من الوعي المجتمعي و من ثم التفاعل النقدي الواعي.

ملاك الخالدي