بسم الله الرحمن الرحيم
إليكم مقالي الذي نُشر في موقع (الإسلام اليوم) و (صحيفة جوف الإلكترونية) راجية أن ينال استحسانكم.
التدين الجديد
لم يكن ظهور (التديّن الجديد) أمراً مفاجئاً أو غريباً، فلقد جاء بعد تغيّرات عدة مر بها الفكر الديني في القرون المتأخرة، فكان نتيجة إرهاصاتٍ متراكمة، و على الرغم من الجدلية القائمة حول الإقرار بهذا النمط الجديد من عدمه، و على الرغم مما يثيره هذا المصطلح من تباين حاد في الآراء و المواقف، إلاّ أنها ظاهرة لافتة تناولتها الدراسات و المؤلفات بكثير من الاستفاضة، كما أن مظاهر الجِــدّة (التجديد) و الاختلاف الفكري على مستوى الأحكام و المفاهيم تفصحُ عن وجود (تديّن جديد) كنمط جديد لفهم علاقة الدين بالحياة، إلاّ أن ملامحه الفكرية لم تتبلور في صورتها النهائية بعد، فما زالت ملامحها في طور التراكم؛ نظراً لأن ظاهرة منظّري و قيادات هذا النمط من يُطلق عليهم (الدعاة الجُدد) ما زالت قيد التحوّل و التشكل على مستوى المجال و الخطاب.
لذا انقسمت المساحة الاجتماعية الإسلامية على نفسها حيثُ يرى البعض فيها مشروعاً لتمرير التغريب، فيما يرى الآخرون أنها المشروع الأجدى الذي ينسجم و التسارع الاقتصادي و التقني و الانفجار المعرفي، بالإضافة لدورها في رفع المستوى الأخلاقي لدى الشباب المنبهر بالحداثة.
و لعل من أهم الإرهاصات التي سبقت ظهورها -من وجهة نظري- ما يلي:
1- ظهور قيم جديدة:
حين أدّت أزمة الحداثة الغربية إلى ظهور (ما بعد الحداثة) في الغرب ساهمت هذه الأخيرة بإعلاء بعض القيم حيثُ ساهمت بعض الحركات الدينية هناك في بلورتها لتتماشى مع الرأسمالية الغربية في إطار علاقة جديدة ما بين النظام الديني و الاقتصادي، فظهرت قيم جديدة كالإدارة، والنجاح، والإنجاز، والإتقان، والتنمية، والجدية و غيرها كقيم معرفية جديدة محايدة ذات هامش متّسع مرن، فكان الانفتاح المفاجئ المزدوج معبراً جيداً لوصولها للشرق، فكانت محطّ إعجاب الإسلاميين في نهاية الثمانينيات الميلادية، كطارق السويدان، و محمد الراشد، و محمد العوضي، و غيرهم، فعملوا على ربط الالتزام بهذه القيم، و من ثم حاولوا صياغة التزام جديد على ضوء هذه القيم التي أسرجوها كقيم إسلامية أصيلة، بمعنى أنها بضاعتنا رُدّت إلينا، كسعي الدكتور طارق السويدان للتدليل على أن العادات السبع التي ذكرها (كارنيجي) في كتابه الشهير (العادات السبع الأكثر فاعلية) عادات امتلكها المسلمون في الإسلام قبل أن يكتشفها كارنيجي.
2_ظهور المتدين الجديد:
المتدين الجديد في الشرق أو ما أسماه (باتريك هايني) بـ (المتدين الرابح) الذي يتميز بمرونته و همته وانضباطه، يتوق للنجاح و الإنجاز، يسعى دائماً لاكتساب الخبرات و تعزيز الذات، و يجد متعته في مساعدة الآخر (القريب و البعيد)، و الإحسان إليه، و التفاعل معه، حيثُ ظهر هذا النموذج في مرحلة ما بعد الجهادية في مصر بدوافع سيكولوجية على مستوى الفرد و أيدلوجية على مستوى الفكر حين ظهرت أدبيات جديدة تندرج تحت ما يُسمّى فقه (المصالح و المقاصد).
و لعل المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- الذي يُعدّ أحد منظري الفكر الإسلامي الجديد بلور في كتابه (معالم الخطاب الإسلامي الجديد) أهم معالم هذا الفكر.
و لعلي أُجمل أهم ملامحه فيما يلي:
1- التجديد:
فالتدين الجديد ينطلق من فكر (جذري توليدي استكشافي) كما أسماه المفكر الراحل، بمعنى أن التدين الجديد يعود للمنظومة الإسلامية لاستبطانها و استكشافها؛ لتوليد إجابات حول الإشكاليات و التساؤلات الجديدة التي أنتجتها الحداثة، بالإضافة إلى المحاولات الرامية لتجديد الفقه من الداخل انطلاقاً من أرضية إسلامية.
2- الانفتاح:
الانفتاح على الحداثة الغربية، انفتاحاً نقدياً تفاعلياً، سعياً للاستفادة منها دون الذوبان فيها، كما أن كسر السياج المعرفي و تبديد التوجس الغربي و الانكفاء الإسلامي كان وراء هذا التوجه الجديد.
3- التنوّع الحضاري:
و ذلك بقبول التدين الجديد للتنوّع الحضاري الديموغرافي و العلمي و الثقافي في إطار إسلامي عام.
4- الخطاب الدعوي الحديث المتجدّد:
نقد الوسائل الدعوية التقليدية و التقليل من نجاعتها، و السعي لتجديد الوسائل الدعوية و تحديثها، و الاستفادة من الإعلام الحديث بكافة أشكاله أدّى لظهور أنماط دعوية جديدة كـ (المسرح الإسلامي) و تنميط أخرى مستجلبة كـ (اليوتيوب الإسلامي) مثلاً.
و من أبرز الإشكاليات التي تواجه التدين الجديد -من وجهة نظري- ما يلي:
1- إشكالية النظرية و ارتباك التطبيق:
نظراً لجـِـدة (أي لكونه جديداً) الجانب التنظيري و مروره بطور التحول و التشكل أدّى ذلك لارتباك في الجانب التطبيقي؛ نظراً لعدم وجود أرضية فكرية واضحة مكتملة، على الرغم من الانبهار الجماهيري بقياداتها (الدعاة الجدد).
2- الاصطدام:
و في السياق التنظيري ذاته نجد أن محاولات التجديد الفقهي جعلت أصحاب هذا النمط الجديد يصطدمون بالفكر الديني السائد و قادته، ما أدى إلى رفض حادّ أفقده شريحة اجتماعية مهمة و إيجاد نوع من المناوأة التي خلخلت استقراره و أجّلت اكتماله.
3- التوجس العالمي:
كان السطوع الإعلامي لبعض الدعاة الجدد في بعض الفضائيات، و النجاح في استيعاب و استقطاب الجماهير، سبباً في مجابهة جهات إعلامية عالمية لأولئك الدعاة بدوافع معروفة فسعت لتغييبهم بإقصائهم و ابتكار و ترويج برامج مُلهية؛ توجساً من كل ما هو إسلامي، و خشية ارتفاع المنسوب الأخلاقي لدى الشباب الذين استطاع الدعاة الجدد التأثير عليهم.
إذن أستطيع القول إن التدين الجديد ظاهرة نشأت في مرحلة انكسار و انبهار، أوجدت شعوراً بضرورة نقد العقل السائد و استحداث و استجلاب ما من شأنه الارتقاء بالنفس المهيضة و رأب التصدعات التي التهمت الشرق في القرون الأخيرة، انطلاقاً من الثوابت العقائدية؛ سعياً للنهوض بالذات الإسلامية وفق فكر متجدّد و بشكلٍ جديد
ملاك الخالدي