الخميس، 29 يوليو 2010

التدين الجديد



بسم الله الرحمن الرحيم
إليكم مقالي الذي نُشر في موقع (الإسلام اليوم) و (صحيفة جوف الإلكترونية) راجية أن ينال استحسانكم.

التدين الجديد


لم يكن ظهور (التديّن الجديد) أمراً مفاجئاً أو غريباً، فلقد جاء بعد تغيّرات عدة مر بها الفكر الديني في القرون المتأخرة، فكان نتيجة إرهاصاتٍ متراكمة، و على الرغم من الجدلية القائمة حول الإقرار بهذا النمط الجديد من عدمه، و على الرغم مما يثيره هذا المصطلح من تباين حاد في الآراء و المواقف، إلاّ أنها ظاهرة لافتة تناولتها الدراسات و المؤلفات بكثير من الاستفاضة، كما أن مظاهر الجِــدّة (التجديد) و الاختلاف الفكري على مستوى الأحكام و المفاهيم تفصحُ عن وجود (تديّن جديد) كنمط جديد لفهم علاقة الدين بالحياة، إلاّ أن ملامحه الفكرية لم تتبلور في صورتها النهائية بعد، فما زالت ملامحها في طور التراكم؛ نظراً لأن ظاهرة منظّري و قيادات هذا النمط من يُطلق عليهم (الدعاة الجُدد) ما زالت قيد التحوّل و التشكل على مستوى المجال و الخطاب.

لذا انقسمت المساحة الاجتماعية الإسلامية على نفسها حيثُ يرى البعض فيها مشروعاً لتمرير التغريب، فيما يرى الآخرون أنها المشروع الأجدى الذي ينسجم و التسارع الاقتصادي و التقني و الانفجار المعرفي، بالإضافة لدورها في رفع المستوى الأخلاقي لدى الشباب المنبهر بالحداثة.

و لعل من أهم الإرهاصات التي سبقت ظهورها -من وجهة نظري- ما يلي:
1- ظهور قيم جديدة:
حين أدّت أزمة الحداثة الغربية إلى ظهور (ما بعد الحداثة) في الغرب ساهمت هذه الأخيرة بإعلاء بعض القيم حيثُ ساهمت بعض الحركات الدينية هناك في بلورتها لتتماشى مع الرأسمالية الغربية في إطار علاقة جديدة ما بين النظام الديني و الاقتصادي، فظهرت قيم جديدة كالإدارة، والنجاح، والإنجاز، والإتقان، والتنمية، والجدية و غيرها كقيم معرفية جديدة محايدة ذات هامش متّسع مرن، فكان الانفتاح المفاجئ المزدوج معبراً جيداً لوصولها للشرق، فكانت محطّ إعجاب الإسلاميين في نهاية الثمانينيات الميلادية، كطارق السويدان، و محمد الراشد، و محمد العوضي، و غيرهم، فعملوا على ربط الالتزام بهذه القيم، و من ثم حاولوا صياغة التزام جديد على ضوء هذه القيم التي أسرجوها كقيم إسلامية أصيلة، بمعنى أنها بضاعتنا رُدّت إلينا، كسعي الدكتور طارق السويدان للتدليل على أن العادات السبع التي ذكرها (كارنيجي) في كتابه الشهير (العادات السبع الأكثر فاعلية) عادات امتلكها المسلمون في الإسلام قبل أن يكتشفها كارنيجي.

2_ظهور المتدين الجديد:
المتدين الجديد في الشرق أو ما أسماه (باتريك هايني) بـ (المتدين الرابح) الذي يتميز بمرونته و همته وانضباطه، يتوق للنجاح و الإنجاز، يسعى دائماً لاكتساب الخبرات و تعزيز الذات، و يجد متعته في مساعدة الآخر (القريب و البعيد)، و الإحسان إليه، و التفاعل معه، حيثُ ظهر هذا النموذج في مرحلة ما بعد الجهادية في مصر بدوافع سيكولوجية على مستوى الفرد و أيدلوجية على مستوى الفكر حين ظهرت أدبيات جديدة تندرج تحت ما يُسمّى فقه (المصالح و المقاصد).

و لعل المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- الذي يُعدّ أحد منظري الفكر الإسلامي الجديد بلور في كتابه (معالم الخطاب الإسلامي الجديد) أهم معالم هذا الفكر.

و لعلي أُجمل أهم ملامحه فيما يلي:
1- التجديد:

فالتدين الجديد ينطلق من فكر (جذري توليدي استكشافي) كما أسماه المفكر الراحل، بمعنى أن التدين الجديد يعود للمنظومة الإسلامية لاستبطانها و استكشافها؛ لتوليد إجابات حول الإشكاليات و التساؤلات الجديدة التي أنتجتها الحداثة، بالإضافة إلى المحاولات الرامية لتجديد الفقه من الداخل انطلاقاً من أرضية إسلامية.

2- الانفتاح:

الانفتاح على الحداثة الغربية، انفتاحاً نقدياً تفاعلياً، سعياً للاستفادة منها دون الذوبان فيها، كما أن كسر السياج المعرفي و تبديد التوجس الغربي و الانكفاء الإسلامي كان وراء هذا التوجه الجديد.

3- التنوّع الحضاري:

و ذلك بقبول التدين الجديد للتنوّع الحضاري الديموغرافي و العلمي و الثقافي في إطار إسلامي عام.

4- الخطاب الدعوي الحديث المتجدّد:

نقد الوسائل الدعوية التقليدية و التقليل من نجاعتها، و السعي لتجديد الوسائل الدعوية و تحديثها، و الاستفادة من الإعلام الحديث بكافة أشكاله أدّى لظهور أنماط دعوية جديدة كـ (المسرح الإسلامي) و تنميط أخرى مستجلبة كـ (اليوتيوب الإسلامي) مثلاً.

و من أبرز الإشكاليات التي تواجه التدين الجديد -من وجهة نظري- ما يلي:
1- إشكالية النظرية و ارتباك التطبيق:

نظراً لجـِـدة (أي لكونه جديداً) الجانب التنظيري و مروره بطور التحول و التشكل أدّى ذلك لارتباك في الجانب التطبيقي؛ نظراً لعدم وجود أرضية فكرية واضحة مكتملة، على الرغم من الانبهار الجماهيري بقياداتها (الدعاة الجدد).

2- الاصطدام:

و في السياق التنظيري ذاته نجد أن محاولات التجديد الفقهي جعلت أصحاب هذا النمط الجديد يصطدمون بالفكر الديني السائد و قادته، ما أدى إلى رفض حادّ أفقده شريحة اجتماعية مهمة و إيجاد نوع من المناوأة التي خلخلت استقراره و أجّلت اكتماله.

3- التوجس العالمي:

كان السطوع الإعلامي لبعض الدعاة الجدد في بعض الفضائيات، و النجاح في استيعاب و استقطاب الجماهير، سبباً في مجابهة جهات إعلامية عالمية لأولئك الدعاة بدوافع معروفة فسعت لتغييبهم بإقصائهم و ابتكار و ترويج برامج مُلهية؛ توجساً من كل ما هو إسلامي، و خشية ارتفاع المنسوب الأخلاقي لدى الشباب الذين استطاع الدعاة الجدد التأثير عليهم.

إذن أستطيع القول إن التدين الجديد ظاهرة نشأت في مرحلة انكسار و انبهار، أوجدت شعوراً بضرورة نقد العقل السائد و استحداث و استجلاب ما من شأنه الارتقاء بالنفس المهيضة و رأب التصدعات التي التهمت الشرق في القرون الأخيرة، انطلاقاً من الثوابت العقائدية؛ سعياً للنهوض بالذات الإسلامية وفق فكر متجدّد و بشكلٍ جديد


ملاك الخالدي

هناك 4 تعليقات:

  1. الأخت الفاضلة ملاك
    قرأت المقال في مكان آخر ووجدت أن بعض الردود لا ترتقي لمستوى هذا المقال فأعرضت عن أن أضع ردي هناك , ولعل المقال فيه الكثير من الإثارة , كما أنه يستفز العقل للمشاركة لما فيه من اختلاف بوجهات نظر الجميع حول جزئياته وليس مضمونه الشامل , ومن هنا فلعل لي تعليقات حيال أكثر النقاط إثارة , وإن كانت كثير من نقاطه تحتاج إلى أن يدلي المرء برأيه فيها :
    1- (( لأن ملامحه الفكرية لم تتبلور في صورتها النهائية بعد، فما زالت ملامحها في طور التراكم؛ نظراً لأن ظاهرة منظّري و قيادات هذا النمط من يُطلق عليهم (الدعاة الجُدد) ما زالت قيد التحوّل و التشكل على مستوى المجال و الخطاب )) في حقيقة الأمر قد نتفق هنا ولكنني من زاوية متشائمة , بمعنى أن هذا التشكل قد يملى على هؤلاء البروتستانت الجدد أو المحتجين على الدين الذي أنزله الله على محمد ويريدون تعديل دين الله كما عدل مارتن لوثر الكاثوليكية المسيحية إلى البروتستانتية , قلة منهم بسبب تأثرهم تأثراً عميقا مناهج الغرب ومباهجهم وحياتهم الراقية خاصة على صعيد الرجولة والأنوثة والحداثة والأصالة , أما كثير منهم دون تسمية فينقسمون إلى قسمين قسم سيثبت التاريخ في المستقبل أن لهم اتصالات قوية بمراكز القوى الدولية وهم يخدمون تلك القوى مقابل حوافز لهم قد تكون مالية وقد تكون معنوية كجائزة نوبل وغيرها , أما القسم الآخر فهم انتهى أملهم بالقيادة والصدارة ولذا فهم يحاولون لفت انتباه القوى الدولية نحوهم لدعمهم ومنحهم مثل هذه الصدارة , ومما يثير السخرية حولهم أنهم يأتون بمبتكرات ليست من اهتمامات المجتمع ففشل الرسول الذي ابتكره عمرو خالد لم يكن مطروحاً حتى من اليهود والمسيحيين فكاتب أمريكي كتب كتاب العظماء مائة أولهم محمد عليه الصلاة والسلام ليأتينا عمرو خالد بقنبلته بأن الرسول قائد فاشل رغم أنه حاول التراجع وتفسير الأمر بطريقة تنطلي علينا إلا أن دوره أن يختط الخط والمنهج ليكمله غيره , وهكذا طرحت قضايا لم تكن مشغلة للمجتمع أصلا كقضايا الاختلاط والغناء وإرضاع الكبير حتى أصبحنا أمام تهكم فضيع لمثقفي الغرب كما فعلت أستاذتان أمريكيتان بعلم النفس وتفسيرهما لفتوى ارضاع الكبير , لذا فالتدين الجديد له أجندته وخطته الدولية وقادته وأهدافه وهو إحداث تغييرات جذرية بالدين الإسلامي نفسه لا سمح اهه . هذه هي النقطة الأولى ولي عودة .. بارك الله بقلمك
    د.صالح السعدون

    ردحذف
  2. تابع أعلاه
    أختي الفاضلة :
    متابعة لما هو أعلاه :
    بالنسبة للمفكر العربي الكبير عبدالوهاب المسيري هو مختلف عن هؤلاء .. لقد أثر على مجمل فكره " الموسوعة اليهودية " التي بذل عمراً في تأليفها , ومن ثم فتوجهاته سياسية من الدرجة الأولى ولم يسعى قبل وفاته إلى الغوص في القشور لإيجاد له فصلاً في تمزيق الأمة , بل بذل جهده من خلال حزبه كفاية على ما أتذكر كي يصلح الأحوال بأسلوب جديد كما قلت ولكن بأسلوب يختلف عن الإسلاميين القدامى على السواء كالإخوان أو الجماعات المتشددة التي خرجت من عباءة الإخوان .
    بالنسبة لفقرة أهم الملامح التجديد صحيح على الإجمال ولكن هذا ليس مقتصرا على عصرنا , ففي العصور القديمة كان أفلاطون مجدداً لما سبقوه , وفي العصور الإسلامية كانت حركة الترجمة والتلاقح الثقافي مع الثقافات الهندية واليونانية قد أنتج تجديدا ولكن على حساب الإسلام فظهرت فرق تتحدث بعلم المنطق والفلسفة وبرزت فرق جديدة كالمعتزلة والقدرية والصوفية , كما في العصور الوسطى الأوروبية فقد قام مارتن لوثر برفع الإنجيل على الرف والتجديد من خلال العودة للتوراة وسماه العهد القديم وجعله أصل التشريع بالنسبة للبروتستانت في شمال أوروبا ..ومن هنا فحين يقوم هؤلاء المجددون بذلك فهو طريق قد رسم لهم ليتماشوا مع من سبقهم كي تبدأ من خلال حركتهم المرعبة انشقاقات جديدة بالإسلام وتشرذم يخدم النظام الدولي الجديد ويضعف الأمة .
    وقد اتفق معك أن التجديد ضروري حين يقوم على أسس تخدم الأمة , كالأمور السياسية فمثلاً الأمة بحاجة للتجديد السياسي فالملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله قد قام بنوع من التجديد في زمنه بما أسمي برابطة العالم الإسلامي والمؤتمر الإسلامي وغيرها وفي عهد الملك عدالعزيز ظهرت الجامعة العربية بنظام عقيم لا يسمن ولا يغني من جوع , فلو أن هؤلاء المجددون تناولوا أزمة النظام العربي والإسلامي وأتوا بطروحات تناقش هموم الأمة حتى لو اختلفنا مع طروحاتهم سيكونون مجددين ..ولكنهم يتركون السمين ويذهبون للغثاء كالغناء والاختلاط وإرضاع الكبير فنحن بحاجة إلى أن تقفل أفواههم بالشمع الأحمر فلا يأكلوا حتى بها فربما هلكوا وأراحوا واستراحوا .
    بخصوص هذه الفقرة ((- إشكالية النظرية و ارتباك التطبيق:
    نظراً لجـِـدة (أي لكونه جديداً) الجانب التنظيري و مروره بطور التحول و التشكل أدّى ذلك لارتباك في الجانب التطبيقي؛ نظراً لعدم وجود أرضية فكرية واضحة مكتملة، على الرغم من الانبهار الجماهيري بقياداتها (الدعاة الجدد) ))
    لعل قضية الانبهار الجماهيري معكوسة .. لأن الغالبية العظمى ونحن لا نجد أي قياس للرأي العام دقيق وموضوعي ضد هؤلاء بينما يتبعهم الغثاء ليس إلا أو الجهلة انظري كيف تسخر من الشعب السعودي بأكمله أستاذتين أمريكيتين بسبب الشيخ العبيكان نسأل الله أن يهدينا ويهديه إلى الحق فقد سخرت الباحثتان الأمريكيتان من أن هذا دلالة على أن الشعب السعودي يحسد إسرائيل التي تعيش بأنهار اللبن والعسل في فلسطين بينما هم يعيشون في الصحراء القاحلة .
    إنهم لا يعلمون كم بهذا التجديد هم يحفرون قبور الأمة . الوضع أكثر خطورة من مجرد الفتيا بقضايا تافهة إنها إشغال للأمة عن القضايا المصيرية .
    غير أني بعقلية الأكاديمي أختلف بالنتيجة الأخيرة لهذا المقال الرائع من حيث الإعداد وهي أن ((التدين الجديد ظاهرة نشأت في مرحلة انكسار و انبهار، أوجدت شعوراً بضرورة نقد العقل السائد و استحداث و استجلاب ما من شأنه الارتقاء بالنفس المهيضة و رأب التصدعات التي التهمت الشرق في القرون الأخيرة، انطلاقاً من الثوابت العقائدية؛ سعياً للنهوض بالذات الإسلامية وفق فكر متجدّد و بشكلٍ جديد)) لعل النتيجة التي أراها أن قادة الفكر الجديد يسعى إلى عكس ماتوصل إليه المقال .. إنهم يريدون تصديع الأمة وتفريقها انطلاقاً من البحث عن إشغالها بتوافه الأمور .. إنهم أخطر علينا من العدو .. وإن سمح لهم بالاستمرار بهذا العبث فسيهدمون الأمة بأيديهم لا بأيدي غيرهم . أعاذنا الله من ذلك .

    بارك الله فيك وفي قلمك
    د.صالح السعدون

    ردحذف
  3. أهلاً حياكم الله
    و كل عام و أنتم بخير
    أتفق معكم حول كثير من النقاط التي ذهبتم إليها ، لكنني لا أجنح إلى التعميم بخصوص انقسام الدعاة الجدد ما بين متآمر و ساعٍ إلى الشهرة ، فهناك من يدعو إلى الله لوجه الله و رغبة منه في رفع المنسوب الديني و الأخلاقى لدى الشباب المنبهر بالحداثة لذا فهو يستخدم أساليب تتناسب و روح هؤلاء الشباب و عصرهم .

    و بالنسبة لقضية الانبهار الجماهيري فهي تعود لعامل سيكولوجي أكثر من أي شيء آخر ، فحين اعتاد الناس على طريقة دعوية تقليدية أتى أولئك الدعاة بطرق جديدة ، ساعين إلى تجديد فقهي ذي مرونة أكثر ، كل هذا جاء في مرحلة انكسار فكان الانبهار و النزوع إلى ما قد يجدوا فيه راحة لأرواحهم و خلاصاً لمشاكلهم.

    شكراً مرة أخرى ، و ما قمتم بطرحه جدير بالاهتمام ، بارك الله فيكم

    ردحذف
  4. بسمه تعالى ..

    أتفق بدرجة كبيرة مع ماجاء به الدكتور ,
    وأني لأتخوف من تسونامي الحداثة هذه والتي أتت على النمط الغربي أو على بقايا أفكار العلمنة وبالتالي ف الخوف يكمن في أن يتحول المنهج الإسلامي لدى هؤلاءالحد
    اثيون إلى منهج مايع ومغاير للمنهج الإسلامي الأصيل .

    نزار

    ردحذف