الخميس، 26 أغسطس 2010

بسم الله الرحمن الرحيم

تأملاتٌ في آيات


و تأخذنا لوثة الدنيا إلى مساحاتٍ مأهولة بالجفاف ، تحجبُ قلوبنا عن تأمل آيات الله فنعيشُ بلا خفقانٍ أو توقان ..
متى نقف بصدق و خشوع ، نرسلُ أرواحنا إلى حيثُ يرتوي القلب و العقل ، فيعيشان إيماناً عميقاً يقويان به على صروف الدنيا و يواصلان النهل ، و هذه بعض تأملاتي القاصرات أسرجها دعوةً للتفكر و أن يكون لنا فيما نقرأُ وقفات ..

( و أنبتها نباتاً حسناً و كفـّلها زكريا) الآية 37 ، سورة آل عمران.
توقفتُ مليـّا و أنا أتساءل لمَ جاءت "كفـّلها" بتشديد الفاء و لم تكن "كفـِلها" ، و كلاهما يدلان على كفالة زكريا لمريم ، إلا أن الأولى بمعنى كفّلها ربها زكريا ، أي ألزم زكريا بذلك و يسره له و أعانهُ عليه ..
إذن فقد أسند الله إليه كفالة مريم و لم يسندها لزكريا بنزع التشديد ، تكريماً لشأنها و رعايةً لها و رفقاً بها عليها السلام .
بل إن في الأمر بُعدٌ مستقبليٌّ ففيه شدٌ من أزرِها و تثبيتٌ و طمأنةٌ لقلبها حين تخرجُ بعد حينٍ من محرابها تتوارى عن أعين الناسِ و مشاعرُ الخوفِ و الأسى و الضعف و ألم المخاضِ تتنازعها ، فتتذكر أنها في كفالة و عناية ربها لتقر عينها ، إنها الكفالة الإلهية التي لا تنفد و لا تـُـفقد .
و لم يقل سبحانهُ و تعالى (أكفلها) بل (كفّلها) مع أنهما مترادفتان و يؤديان معنىً واحداً ، فالتشديد في اللغة يوحي بمبالغة ، و لعل الله أتى به هنا إشارةً لشدة الاعتناء و المبالغة في رعاية تلك الفتاة اليتيمة المنذورة لخدمة بيته و القائمة في محرابها معتزلةً طيوف الدنيا ..
إنها رحمة ربنا السنية و مكانةُ مريم العلية مبثوثة في كلٍ حرفٍ نبصره إلا أن البصيرة المُغيبة تُفقدنا القدرة على استشعار ذلك .

(إني مهاجرٌ إلى ربي) آية 26 ، سورة العنكبوت.
قيل في التفاسير إنها جاءت على لسان لوط و قيل بل إبراهيم ، و قيل إنها هجرة مكانية و قيل بل روحية ، و في الحقيقة لا فرق يُذكر فكلاهما نبي و كلتا الهجرتين فرارٌ إلى الله !
و يذكر نبي الله أنه (مهاجرٌ) ربما إشارةً لشدةِ ما لاقاه وعظمِ من أقبل إليه و ابتغاه ، و لم يقل (ذاهب) أو (مسافر) ، فالهجرة كما أفهمها هي انتقال من مكانٍ يغلبهُ الحيف أو الفقر أو الشر أو الكفر إلى مكانٍ أجدى و أرجى بنية الاستقرار ، و الذهابُ و السفر لا يقتضيان ذلك ..
فحين شعر نبيُ الله عيسى بالخذلان صدعَ باحثاً عن أنصار ، و حين رأى لوط فساد و عصيان قومه قرر الفرار ، تشابهت الأحداث و اختلفت القرارات ، إلا أنها كانت لله و وفقاً للحال و مقتضاه .
و يهاجر لوط إلى رضا ربه ، تائقاً إليه ، راجياً تثبيته بما منّ عليه ..
و تتكاثر الضوضاء و الغوغاء حولنا و يتلوث الفضاء بسحنة الأرض ، و نُركسُ أرواحنا و نُدنفها بأغبرة الدنيا ، فأين نحنُ من هجرة الأرواح و القلوب ؟!
و أين نحنُ من اللجوء إلى الله إن مسّنا زيغٌ أو لغوب؟!
و لماذا تنتزعنا الدنيا فتغرقنا ، تورثنا ضعفاً و تسلبنا القرار ، فنتخبط تائهين في لججها ..

(و أصبحَ فؤادُ أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها) آية 10 ، سورة القصص.
حين فقدت أم موسى عزيزها استحال فؤادها نبضاً فارغاً سوى من ذِكرِ موسى و الحنينِ إليه فكادتْ أن تصرخ باسمه أمامهم لولا تثبيت الله لها ..
ذلك و هي أم نبي و حلـّت عليها منحة إلهية منحتها الصبر فكيف بنا نحن البشر العاديين حين نفقد أو نحبس أرواحنا عن روحٍ أو شيءٍ أثيرٍ فيها عزيزٍ عليها؟
كيف للبيانِ و الجنان أن ينصرفا عما مازجهما راغِمَين؟!
تالله إنه جهادٌ في طريق المكابدة البشرية ، و من هنا يجيء فضل الصبر و عظيم ثوابه و نحن في شهر الصبر و الشكر ، و لنا أن نستحضر ذلك الفضل و الثواب حينَ يصبحُ فؤادُ أيّ منّا فارغاً!

(إنهُ أواب) آية 44 ، سورة ص.
(أواب) و مازلتُ في فضاءات تأمل هذه الصفة الجليلة التي خلعها الله على عبديه (داوود) و (أيوب) عليهما السلام .
و من المفارقات الجديرة بالنظر اختلافُ حاليّ (داوود) و (أيوب) ، فالأول ملكٌ سُخّرتْ له الجبال و الطير و أوتى ملكاً عظيما ، و الآخرُ عاشَ مبتلاً بالمرض و الفقر و الفقد !
فلم ينس الأول شكر ربه و الإنابة إليه ، فلم يُغفلهُ النعيم عن الرحيم ، و لم يُطغه المُلك ليُسلمهُ إلى الجحود .
و لم يفتأ الآخرُ بالله ارتباطاً فلم تورثهُ المصائبُ كفراناً و سخطا .
فكان كلاهما أواباً رجّاعاً إلى ربه ، أي كثير الرجوعِ إلى الله.
أخطأ داوود فخرّ خاضعاً عائداً لربه ، و أنهكت البلايا أيوب فرجعَ إلى الله يرجوه و يدعوه فكانت الرحمة ..
و كثيراً ما تأخذنا أمواج الدنيا ، تلوكنا المُلمّاتُ و الذنوب ، يغرقنا هوى النفس و ميل القلوب ، فنخطئ أو نفقدُ طريقَ الرجوع ..
و في طريق الحياة يعتري الإنسانُ المرض و الهوى و الفقد و الفتنة و الخطأ ، و تبقى خفقات الوعي تسكننا لتعيدنا إلى الله ، نتشبثُ بها ، نحاول ذلك جاهدين ، نغفلُ عنها حيناً ، ثم نعود فنتصبرُ و نتصبر ، لعل الله يحدثُ بعد ذلك أمرا أو يمنحنا من لدنهُ صبرا.

ملاك الخالدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق